رحلة سعيد في إيران
وصلنا ليلا، كانت دقات قلبي تتسارع، أدهشني في البداية دقة التنظيم، وجمال الشوارع، الاشجار في كل مكان، وحدائق منها الصغيرة ومنها الكبيرة، ولم يعتني من شرودي سوى صوت ابي: أترى تلك الأضواء البعيدة؟
نعم! كم هي جميلة! تلمع على تلك القبه الذهبية، أما ذلك الضوء الازرق الذي يتوسطها فله في النفس انطباع خاص.
إنه مقام الامام علي بن موسى الرضا، وهذة مدينة مشهد.
أتعرف يا أبي: إن إيران بلد جميل، فيه كل ما يريح النفس والعين.
نعم يا بني! لقد أوصانا الاسلام أن نعتني بالطبيعة لانها أمانة بين أيدينا.
كان والدي قد قرر أواخر العام الرحلة الى إيران لزيارة المقامات الشريفة في قم وطهران وأصفهان ومقام الامام الرضا(ع)، في مشهد دون أن يخبرنا بذلك، لذا وبعد صدور نتائج المدرسة واحتلالنا مراكز متقدمه باح لنا بالسر فأصبحنا كمن أصيب بمس، نقفز ذات اليمين وذات الشمال، ونكثر الاسئلة:
ماذا سآخذ معي من ثياب؟ هل سنركب الطائرة؟ هل إيران جميلة؟ الى غير ذالك من أسئلة جعلت والدي يضحكان لها، دون الإجابة على أي منها، لأننا غادرنا الغرفة مسرعين، دون أن نتيح لهما فرصة الاجابة.
كانت المره الاولى التي أركب فيها الطائرة، استقبلتنا المضيفة بوجه باسم، وارشدتنا الى مقاعدنا. لم احسب يوما انها كبيرة بهذا الشكل، كل شيء فيها منضم. ارتفعت في السماء، وبدأت الاشياء تصغر على الارض، ما هي إلا لحظات حتى اشارت اللوحة أمامنا إننا على ارتفاع الاف الاقدام، وهنا تماهى كل شيء، وحده الغيم الابيض كأنه بساط امتد الى ما لا نهاية.
هو الامام الثامن من أئمه اهل البيت عليهم السلام، هكذا بدأ والدي كلامه يخبرنا في الطائرة عن الامام على بن موسى الرضا عليه السلام.
أصحيح انه ولد في المدينة يا أبي؟
أجابني: نعم! وعاش مده في بغداد، شاهد والده الامام الكاظم عليه السلام، ينقل من سجن الى سجن مدة أحد عشر الى أن استشهد، فانتقل الظلم والاضطهاد اليه عشرين سنة.
صفه لي يا أبي: يا بني! إن الامام الرضا(ع) كان عالم آل محمد (ص) ما سئل عن شيء إلا علمه، كان يكثر من ذكر الله في جميع اوقاته، وعندما استدعاه الخليفة المأمون كان لا يصل الى بلد الا قصده الناس يسألونه في دينهم، وكان يجيبهم ويقنعهم.
ومذا عن أخلاقه؟
لقد كان يمتاز بأخلاق عالية، كان هادئ الطباع، لطيف الحديث، يجتذب الناس كلهم.
وصلنا الى الفندق المقابل للمقام العظيم، وسرعان ما استولى علينا النوم، لكننا استيقظنا باكرا، ولبسنا ثيابا جديدة، وخرجنا. كانت قسمات وجه والدي تتغير كلما اقتربنا من البوابة الرئيسية، كيف لا ونحن نزور ابن بنت رسول الله(ص).
الحشد كبير جدا، الزائرون يفترشون الارض هنا وهناك، يتدافع الكثيرون أيهم يصل قبلا، وكلما ازاد الازدحام، حتى وصلنا الى القفص الشريف، صور لا يمكن أن تمحى من مخيلتي، وخاصة ذلك الحديث الذي رواه والدي في الطائرة عن أحد أصحاب الامام المقربين يقول:
ما رأيت أبا الحسن الرضا(ع) جفا أحدا بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى ينهي، وما رد أحدا، ولا تقهقه بل ضحكه التبسم.
لم تملك في البداية حريه الحركة والنظر، كنا كالمسيرين الى مكان محدود، وبصعوبة بلغنا القفص ذا القبه الخضراء، هذا يصرخ باكيا، وذاك ينادي الامام، يتعلق بالمرقد، وذلك يكتفي بالنظر، وإن استطاع فيلمسه من أطراف أصابعه، أما الصغار فكانوا يتسلقون الرؤوس، وبحركات سريعة يصلون.
كان صعبا علي ترك المدينة، بعد أيام تنقلت فيها بيت أحيائها، ولفتني السوق المزدحم بالمارة القادمين من كل حدب وصوب، يبتاعون ما خف حمله، من هدايا وحاجيات، ومع كل هذا الزحام تجد الناس فرحين، والابتسامة تعلوا وجوه الجميع، أما لغة التخاطب فأغلبها الاشارات بالأيادي، لكثرة من لا يتقن لغة موحدة، وغالبا ما يحتاج البائعون الاله الحاسبة يطبعون عليها المبلغ المطلوب.
فتشنا عن أختي دون جدوى، بعد أن دخلت بابا من أبواب المقام، كان الرعب باديا على وجه أمي، وقد زاغت عينها، وتغير لونها، أما أبي فعلى الرغم من سعيه الدؤوب بين الزائرين، فلم يظهر عليه الكثير من الخوف، وقصد قسم الادارة آملا بالمساعدة فبادروا مشكورين، أحسست أن أمي فقدت الامل بايجادها خاصة بعد أن حولت وجهها رافعة يديها بالدعاء: جئنا لزيارة ابن بنت رسولك (ع) فلا تردنا ورد علي ابنتي سالمه يا أرحم الراحمين بحق صاحب المقام الشريف.
أحسست بقشعريرة تسري في جسدي، وادركت أن أختي ستعود وما هي الا فتره وجيزه حتى عادت فأخذتها أمي بين يديها، وبكت، شدت عليها بقوه، كأنها لا تريد تركها تفلت مرة ثانية.
تركنا المدينة، نهارا، وبقي المقام في قلبي بقبته الذهبية، وهي تعكس الشمس حتى لتحسبها شمسا ثانيه تشرق من مكان واحد، رجوت من الله أن يوفقنا للعودة مرة أخرى، لنستزيد أكثر.