الكاظم (ع) ينقذ محسنا
هدأت العاصفة الثلجية التي ضربت لبنان في الايام الثلاثة الماضية، وخرج أهل القرى يتفقدون الاضرار، وظهر حجم الكارثة في اخبار المساء، سيول في مناطق الساحلية، ثلوج تعلو المرتفعات وقد دفنت تحتها المزروعات، واسقطت الكثير من البراعم والثمار.
في المدينة فقد اختلطت الصور، أشجار باسقة انحنت على السيارات كانت متوقفة على قارعة الطريق، ولوحات إعلانية سقطت دون تمييز بينها، وحده المدينة بقيت صامدة بوجه الريح.
في الليل وعلى نشرات الاخبار التي لاقت اهتمامنا نحن الصغار على غير عادة، بدأنا نرقص ونضحك لان اعلانا من المدرسة باستئناف الدراسة تلاه المقدم فابتسمت أمي، وزغردت لخلق جو من الفرح يكسر حدة الصقيع.
انه السابع من صفر، وفيه ولد الامام السابع من أهل البيت عليهم السلام، وقد كنا نحضر أنفسنا لاحتفال كبير لكن العاصفة والعطلة القسرية أثرت على هذه التحضيرات، إلا اننا وبالرغم من ذلك وجدنا المدرسة بحلة جميلة في هذا اليوم.
توجهنا مباشرة الى الملعب وبدأنا يعانق بعضنا بعضا، نتلفت فيها كمن يراها للمرة الاولى، نظيفة كالعادة ولكن تكثر فيها الصور والبالونات والزينة على انواعها، ولشد ما دهشني تلك الثريا المدلاة في الاحتفالات الكبرى والاضواء ترسم فيها أجمل الالوان.
نزلنا القاعة في الحصة الخامسة، نمني أنفسنا باحتفال يوازي عظمة هذا الامام الذي شاهد العلماء وطلاب العلم من جميع الاقطار وقد ازدحموا عند أبيه يستمعون حديثه ومناظراته.
ساد الهرج والمرج القاعة عند نزول الصغار اليها، فاستغل فتى هذا الضجيج وانسحب من الخلفي وتوارى عن الانظار، لم اتصور ما سيحدث لاحقا, فاشحت بنضري عنه، وعدت ارقب المعلمين والمعلمات كيف يبذلون الجهد لإسكات التلاميذ حتى يبدأ تنفيذ البرتامج المعد.
ما هي الا لحظات حتى اعتلى المعرف المنبر مقدما قارئ القران، وكان الاثنان من تلامذة المدرسة، انصتنا بخشوع الى آيات الله البينات.
حولت نظري الى التلميذ الذي غادر منذ فترة فوجدت الكرسي شاغرا، ماذا يفعل محسن يا ترى؟ مرت اللحظات بطيئة، ولم أعد أطيق الانتظار، ما تراه يفعل والمدرسة كلها في القاعة؟ اعادني من شرودي وانه كان يلقب بالصالح والصابر والامين والكاظم (ع)، وقد سمي الكاظم لانه كظم غيظه وصبر على مانزل به من بلاء.
لحقت بمحسن الذي انسل من القاعة دون انبراه أحد، ولما وصلت اليه وقع المشهد على عيني كالصاعقة، فقررت وفي لحظة أن أوجه له لكلمة تطيح بوجهه، أخدت محسنا بين يدي بقوة، وصرخت في وجهه: لماذا أتلفت الزينة؟ لكنه لم يجب، ربما لأنه لم يكن ينتظر مني هذا الموقف القاسي والشديد، فأجابني: ولم لحقت بي؟ هل انتهى الاحتفال؟
كان خائفا جدا، هو خوف الذنب أمام سلطة الحق، عيناه في وجهه تدوران على غير هدى، ولونه مال الى الصفرة، وأنا أقبض على قميصه بقوة، وأهيئ نفسي للكلمة لما تذكرت كلام الخطيب عن حلم الامام صاحب المناسبة عندما شتمه أحدهم أمام الناس وآذاه في الكلام، فسأل عن مكانه وتوجه اليه وهو يزرع في ناحية من نواحي المدينة، فدخل عليه وجعله يضاحكه، وصرف له ثلاثمئة دينار مؤنة سنته، وبعد أيام دخل الامام المسجد فوجد الرجل فيه، ولما أن شاهد الامام قال )الله أعلم حيث يجعل رسالته).
وقتها أعجبتني هذه الحادثة فرحت أقرأ عن الامام، فوجدت فيه الكثير من المحطات العظيمة، وتعلمت من كلماته الكثير، عندها أرخيت يدي عن رفيقي محسن.
لقد زينت المدرسة احتفاء بإمام عظيم، وهو يحبك، ويريدك خير الناس.
لقد كنت ألعب فسقط هذا الجزء من الزينة، من دون قصد مني.
ولكنك لعبت بها، أنظر يا محسن لقد أوصى الامام أحد أبنائه قائلا:
(يابني إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، إياك أن يفقدك عن طاعة أمرك بها).
وأنت هنا في معصية وهي إتلاف ممتلكات غيرك، فبادر الى التوبة، وتوجه الى المدير واخبره بما حصل.
إبتسم المدير وربت على كتف محسن قائلا:
(ليس حقا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسنا استزاد منه وان عمل سيئا استغفر الله منه وتاب اليه).
تذكرت إنه شرح هذا الحديث في الاحتفال، استفاض فيه، ثم اردف لمحسن: وأنت تبت الى الله وهو تاب عليك شرط أن لا تكرر ما فعلت مرة اخرى.
خرجنا من مكتب المدير وادمعه تنحدر على خد محسن، فطوقته بذراعي وتوجنا الى النزل.
مساء حدثنا والدي عن الامام الكاظم، وانه قضى نصف حياته في السجون صابرا محتسبا، راضيا بقضاء الله، واخبرنا قصصا وروايات حصلت معه في السجن جعلتني أقرر قراءة سيرة حياته بشكل أوسع حتى أستزيد منه.